في ذكرى مولد رسول الرحمة الإنسانية

لايجهل إنسان سيرة رسالة الإسلام في الحوار والمحبة مع أصحاب العقائد
الأخرى.فالتاريخ يفتح أبوابه لكل مؤرخ منصف، ولكل باحث محترم، حتى يرى كيف
طبق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أجمل وأرقى أنواع التعامل النفسي
والديني والمادي مع اليهود والنصارى، وحتى مع الوثنيين المشركين على الرغم
من كل محاولات العداء والاعتداء على الرسالة والمكلف بتبليغ الرسالة. لقد
تربى رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية ربانية متكاملة وكان خلقه القرآن،
لذلك كان مثال الصبر، ومثال التحمل، ومثال الحوار وقبول الآخر دون أي ضغط
أو إكراه وبذلك ضرب به المثل الأعلى كقائد إنساني دعوته إنسانية عالمية لا
تميز بين الناس

لقد كانت اليهودية والنصرانية قد انتشرتا في بعض
مناطق الجزيرة العربية ووجدت اليهود يسكنون المدينة جنباً إلى جنب مع العرب
من الأوس والخزرج، ووجدت النصارى يسكنون نجران وبعض مناطق الشام المحاذية
للجزيرة من جهة الشمال. ولما أذن الله سبحانه بالهجرة إلى المدينة بدأ بناء
دولة المدينة بميثاق إنساني يضمن للجميع حقوقهم المدنية والدينية وغيرها،
وقد عرف هذا الميثاق بأول دستور سياسي مدني يحفظ الجميع ويحافظ على حقوقهم
وسلامهم الاجتماعي. وجاء فيه: وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم
وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة
والبر دون الإثم. فمن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن
يأمن أصحاب العقائد على أنفسهم، خاصة اليهود، وقد منحهم هذا الدستور جميع
الحقوق الإنسانية التي منحت لأمة الإسلام. وقد كانت هذه الوثيقة فاتحة
الطريق أمام مرحلة جديدة من مراحل التعارف والحوار العملي بين أمة الإسلام
وغيرهم من الأمم الدينية. وقد جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل
نجران من النصارى: "ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته ولا
كاهن من كهانته وليس عليه دنيّة"، وكان عليه الصلاة والسلام وهو في مكة قد
اختار الحبشة النصرانية ليهاجر إلى أرضها بعض صحابته من المستضعفين، وقد
تمت هجرتان لا إلى هذا البلد عندما كان النجاشي ملكاً عليها، فتوجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في انتقاء الحبشة ليهاجر إليها بعض الصحابة لم يكن
انتقاءً عبثياً، فقد قال وقتها: إن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم، ولعلنا
ربما نتساءل لماذا لم يوجه صحابته إلى الشام وفيها أيضاً حكم مسيحي روماني،
الواقع أن حكمة النبي والوحي الذي كان ينزل عليه أرشداه إلى الفروق بين
ملك روماني يحتل أرضاً عربية ولو كان مسيحياً، وملك يحكم بلده وشعبه وهو
منهم وله إيمان حقيقي بدين المسيح كما جاءه به الرحمن الرحيم. لقد مكث
الصحابة في الحبشة حتى السنة السابعة للهجرة فرجعوا إلى المدينة بعد فتح
خيبر، وقد ورد في السيرة النبوية والطبقات الكبرى وغيرهما من الكتب أحاديث
مطولة تبين احترام النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة، ولعل
رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء من أهل الكتاب وغيرهم دليل
على إنسانية الدعوة التي ترشد إلى الهدى والصلاح. ففي السنة السادسة للهجرة
بعث الرسول برسالة للنجاشي ورسالة إلى هرقل ملك الروم، وإلى ابن الجلندي
حاكم عمان، وكان هو وأخوه من النصارى، وإلى الحارث الغساني، وإلى هوذن بن
علي الحنفي ملك اليمامة وإلى أسقف نجران أبي الحارث، وإلى ملك الغساسنة
جبلة بن الأيهم وإلى أسقف الروم في دمشق، وإلى ملك القدس يوحنا بن رؤبة
وإلى أكيدر بن عبد الملك ومزوة الجذامي، وكان جلهم من النصارى على اختلاف
مذاهبهم. وتبين هذه الرسائل أنه لا مطمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بملك أو احتلال أو مال ، لقد كان يدعو إلى الإسلام ليحل السلام. ولو
افترضنا أن هؤلاء جميعاً أسلموا أو قبلوا بالقانون الإسلامي ورفضوا الحرب
لما كانت هناك معارك مثل اليرموك وقنسرين ونحل والواقوصة، لكن الذين أبوا
التسليم بالرسالة الإلهية من الروم تحديداً دفعوا الناس إلى الحرب والمعارك
التي فرضت فرضاً على جيوش المسلمين. ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان في جميع رسائله إلى الزعماء النصارى فهذا هو السند القرآني المتين
الذي يخاطب الآخرين بأجمل الصفات وأرقها (يا أهل الكتاب) فلم يقل لهم يا
كفار ويا وثنيون، إنه يذكرهم أنهم أهل رسالة إلهية، وأن رسالة المسيح عليه
السلام تدعو إلى التعارف والتحابب والحوار والاحترام المتبادل بين الناس،
ولا تدعو إلى التخاصم والتحارب والتباغض والتنافر. ولم تكن هذه الرسائل
المحمدية لتحمل على أحد أو تستخف أو تشهر به وتسخر من عقيدته الدينية، ولو
نظرنا فيها جيداً لرأينا الابتعاد كلياً عن لغة التهديد أو الحرب أو الغزو
والقتال، إنما كانت دوماً تذكر بحساب الله سبحانه وتعالى يوم الآخرة وتذكر
هؤلاء بأن هذا الإسلام العظيم يؤمن بنبوة الأنبياء جميعاً، بل يجعل عدم
الإيمان بهم كفراً بالله وبدينه وأنبيائه. من الطبيعي جداً أن تكون رسالة
النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسالة إنسانية يقبل عليها الآلاف من أبناء
شعوب أوروبا الذين أدخلت في عقولهم المسيحية المحرفة معلومات كاذبة عن
الإسلام ونبي الإسلام.. وما يجري اليوم من هجوم على الإسلام ونبي الإسلام
ليس إلا نقضاً لما جاء به المسيح عيسى عليه السلام، بل هو ارتداد عن
النصرانية الحقة ورسالته الأصلية قبل أن يزيفها المزيفون، فهل عرف هؤلاء
الجاهلون من هو محمد صلى الله عليه وسلم ..؟ هل عرفوا أن القرآن الذي أنزل
على محمد صلى الله عليه وسلم دافع عن المسيح ومريم أكثر بكثير من الذين
ظنوا أنهم يدافعون عن المسيح وأمه. إن الذين أعادوا الرسوم التشويهية لنبي
الإنسانية يحاربون المسيح وموسى ويعقوب ويوسف عليهم السلام يحاربون بهذه
الرسومات كل الأنبياء وعلى رأسهم المسيح الذي يدّعون انتسابهم إليه وإلى ما
بشر به. وللحقيقة نقول: إن هناك طرفين في هذه الحملة، طرف جاهل لا يعرف
شيئاً سوى التعصب الأعمى والجهل بالحقائق والوثائق والتاريخ، وطرف يعرف
ولكن أهواءه الصليبية وتعصبه الحاقد يدفعانه لإثارة النعرات بين الشعوب
وبين العقائد. وعليهم أن يكفوا عن جهلهم إذا كانوا جاهلين، وأن يكفوا عن
تعصبهم الصليبي الحاقد إذا كانوا متعصبين حاقدين. فمحمد صلى الله عليه وسلم
أحرص البشر على إنسانية الدعوة وعلى حرية العقيدة وعلى تآلف القلوب
والنفوس البشرية كلها.